كتب في البناء فراس زعيتر
في يومٍ واحد، وفي ساعةٍ واحدة، وعلى أرضٍ واحدة، تقف صورتان لا تلتقيان، ولو جمعتهما عدسة كاميرا أو فقرة في نشرة أخبار.
الصورة الأولى، مشهد الكرامة تمشي على الأرض، حافية القدمين، لكنها مرفوعة الرأس. أما الثانية، فمشهد من ورق هشّ، مطليّ بالكلام العالي، بلا جذور ولا عمق.
في المشهد الأول، ارتقى من رهن حياته، بل حياة من حوله، من أجل الكرامة.
من قال “لا” في زمن كانت كلّ الأصوات تُصنّع في الخارج. من اختار طريقاً يعرف نهايته، ولم يتراجع. من قاتل عدواً جباناً شرساً، يُجيد القتل عن بعد، ويستقوي على الأطفال والنساء. من وُضعت عند قدميه أعظم الإغراءات، لا ليحكم فقط، بل ليمتلك.
قيل له:
“خذ لبنان، كلّ لبنان، وسمِّ من شئت للرئاسة والجيش والقضاء… فقط لا تُكمل طريق الكرامة”.
فأجابهم:
“هي وحدها ما أملك، ولن أتنازل عنها”.
ومات كما أراد. واقفاً، مقاوماً، شهيداً، كما يحبّ الأحرار أن يموتوا.
وهنا، في هذا المشهد، تتربّع الصفوة.
السيد حسن نصرالله، والسيد هاشم صفي الدين، ورفاقهم وأبناؤهم، هم شهداء بالفعل لا بالصفة. شهداء قدّموا أرواحهم على مراحل، شهيدٌ بقيَ حيّاً ليقود درب الشهداء، وشهيدٌ ودّع ابنه، وأخاه، وصديقه، ثم مضى يُكمل المسير.
هم الشهداء الذين ركعت الكرامة لهم، لا العكس. لأنهم لم يبيعوا، لم يساوموا، لم يتراجعوا. حملوا الدم على الكتف، والمقاومة في القلب، وعبروا بها حيث لا يجرؤ المتردّدون ولا المتقلّبون.
شهداء لم تُصنع لهم مناسبة، بل صنعوا بدمائهم وطريقهم قضية. لم يُرِدوا تصفيقاً، ولا صورة، بل نصراً نهائياً أو شهادة أبدية.
وفي المقابل، مشهد آخر…
ضجيج، استعراض، لغة مسرحية، وبطولة مصطنعة تُسوّق في الذكرى، لا في الموقف. فيه من يرفع صوته لا ليدافع عن الوطن، بل ليبرّر دوره في مسرحية متكررة، سئمها اللبنانيون.
مشهد يقول لك: “أنا الضحية، أنا المستهدَف، صفقوا لي”، لكنك حين تقترب، لا تجد خصماً واضحاً، ولا موقفاً وطنياً ثابتاً، ولا عدواً معروفاً. فقط غموض مُلفّق، وحوادث مشبوهة تُستخدم لبناء صورة بطولية مهترئة.
أنتم، يا من ترفعون صوركم في وجه الناس وتطالبونهم بالتصفيق على إيقاع حكاية واحدة، تسردونها وكأنها فصل من ملحمة بطولية، دون أن تتركوا للناس حقّ
السؤال:
من الذي استهدفكم؟
هل كان فعلاً استهدافاً نابعاً من موقع وطنيّ كبير؟ أم أنّ ما جرى كان نتيجة تصفية حسابات قديمة؟ حسابات ربما شخصية، أو مرتبطة بعلاقات أقلّ ما يُقال فيها إنها مشبوهة؟ علاقات نسجتموها بأنفسكم، فارتدّت عليكم في لحظةٍ فوضوية، استغلّ فيها البعض موجة الدم لتصفية من بات عبئاً عليه أو ورقة منتهية الصلاحية.
لقد عرف هذا البلد وجوهاً كثيرة سقطت،
لا لأنها كانت تخيف العدو، بل لأنها أزعجت مَن حولها، من داخل دوائر النفوذ نفسها،
أو لأنها حملت أسراراً لم يعد يُراد لها أن تبقى.
اعذرنا ايها الوطن لا لن نلبس كلّ دماء تلك المرحلة ثوب القداسة. بعضها كان صافياً نقياً من أجل الوطن… وبعضها الآخر، كان نتاج تهوّر و”سألطفها” لحظة تخلٍّ، أو علاقات خاطئة، أو ملفات ظنّ أصحابها أنها طُويت، فإذا بها تنفجر.
نعم، بالتأكيد، المشهدان مختلفان.
هنا شهادة، وهناك استغلال.
هنا كرامة تنحني لها الجباه،
وهناك استعراض يُخجل الأحرار.
هنا رجالٌ قاوموا وماتوا واقفين أو عاشوا تحت النار بكرامة، وهناك من يختبئ خلف حادثته لينتزع من الناس تعاطفاً، لا حقاً.
نعم، سيغضب الله وتحلّ لعنته إنْ لم نفرّق بين الدم الشريف، والدم المستغلّ. بين من ارتقى دفاعاً عن الأرض، ومن سقط نتيجة تراكم أخطاء، أو بسبب من اقترب منهم أكثر مما يجب.
ليس كلّ من سقط شهيداً،
وليس كلّ من نجا بطلاً.
بعض الشهداء أنبياء،
وبعض الأحياء عبءٌ على الذاكرة…